«الكرامة» مصطلح ملتبس، شائك، مورّط، متماهٍ، مخادع، نرجسي، يولد في الذات القبلية، أو في المجتمع الذكوري بحيث يطغى على العقل أحياناً، وعلى مفاهيم التعامل السوي والحضاري في أحايين كثيرة، ويتضخم مع تغذية الجهل والنرجسية و»الأنا» الشرقية البدوية الصحراوية، واعتقاد أن الإنسان الذكر هو مصطفى في كل تصرفاته، وأقواله، وأفعاله، لا يرد له طلب ولا يناقش في قرار، إذ إن قراراته مستمدة من كونه «رجلاً»، تخضع لقراراته الأم، والأخت، والزوجة، والابنة، المهم أن تكون إنسان أنثى، بحيث لا يكون لها إلا الخضوع، وإلاّ فإنها لامست خطوطاً حمر اصطلح عليها المجتمع الذكوري بتسمية «كرامة الرجل».
لقد أثرت مسألة «الكرامة» كثيراً في علاقتنا الأسرية، والاجتماعية، وارتباطاتنا في الحياة اليومية، بحيث تدمرت أسر، وتفرق أصحاب وأحباب، وتشتت صحب، وتنازع أقارب بسبب هذا الخيط الرفيع في المفاهيم الفاصل بين أن يكون الفعل فيه حفظا للكرامة، أو تجاوزا لها.
نذكر في البداية قصة صراع مرير بين طفلين لم تتجاوز أعمارهما العاشرة؛ يتدخل المعلم لفض النزاع الذي كان سببه خدش أحدهما لرجولة الآخر، حيث صرح باسم والدته أمام زملائه، وكرامته كرجل صغير تأبى أن يعرف أحدهم اسم والدته أو أخته، كبروا وكبرت معهم هذه الكرامة وتغذت بمتغيرات عصرنا فماذا بقي منها..؟، وهل أصبحت حجة يتعذر بها الرجال حسب رغباتهم وحاجاتهم، وما هي حدودها التي يجب على المرأة معرفتها للوقوف عندها؟.
نساء متذمرات: «أقلقوا أبو راحتنا.. كرامة كرامة» ومضى عمرنا ونحن في نكد وانغلاق وتناقض!
كرامة على القياس
بداية تقول «سهام محمد»: لم أرَ كرامتهم تقاس إلاّ على احتياجاتهم وقناعاتهم؛ فقد أصرت والدتي على دعوة أختها على وليمة بمناسبة خروجها من المستشفى، وعندما قام ابنها بإيصالها أصرت والدتي عليه ألاّ يغادر قبل أن يشرفها ببقائه لتناول العشاء، ولكنه تجاهل إلحاحها ولحقت به والدته تعاتبه ليرد عليها «كرامتي» لا تسمح لي بقبول دعوة امرأة، والمرأة هي خالته التي بمقام والدته، وقد ترملت بعد رحيل زوجها ولم تنجب ذكوراً وترغب بإحياء مجلس زوجها، وقد استنكرنا موقفه، خاصة والدته، حيث قالت: «أين كرامته عندما ألقى بشماغه أمام عروسه لتدوس على رجولته أمام الجميع، حيث أقنعته العروس بأن ترتيبات الزفة تتطلب هذا الأمر!!».
خط أحمر!
ويقول «علي السعد» -تاجر ملابس- إن تربيتنا العائلية، والاجتماعية، وثقافتنا التي تشرّبناها منذ الصغر تجعلنا لا نتنازل للمرأة ونعطيها الرأي، والتصرف، والقرار في أي شأن من الشؤون الأسرية أو العائلية.. هكذا تربينا؛ ولهذا فإن أي تدخل من المرأة في إدارة المنزل أو توجيه الأولاد يعتبر تعرضاً لكرامة الرجل، فالمرأة كائن يتلقى الأوامر وعليه التنفيذ دون اعتراض، ولا أسمح أن يقال هذا القرار جاء من زوجته، أما هو ف «مسيكين» هنا كرامتي أهم حتى ولو كان قراري خاطئاً!.
كرامته منعته أن يلبي دعوة خالته على العشاء وآخر لم تمنعه في حضور والده لكفالته في الشرطة
نقص الرجولة
وتضيف «أم مشعل» زوجي شخص مزاجي؛ فعندما أناقشه لإيجاد خط وصل بيننا نستطيع التفاهم من خلاله وإقناعي بما يسمح ويمنع من وجهة نظره التي أحترمها إن بادلني الشعور نفسه، ولكنه يرد دائماً بأنه رجل وكرامته لا تسمح له بالنقاش، ويجب علي كامرأة الخضوع والطاعة حتى ولو كان قراره غير صائب، فهو رجل وما يقوله يجب أن يجاب ويطاع.
شماعة الأخطاء!
وترى «منال إبراهيم» أن كرامة الرجل أصبحت شماعة يعلقون عليها أخطاءهم؛ ففيها كثير من الأمور التي لا تخص شهامة الرجل ونخوته، بل أوامره وسلطته؛ فلدي خمسة أخوة ذكور لا أرى منهم سوى التفنن في الأوامر».. لا يصح.. وش الناس يقولوا عنا.. كرامتنا ما تسمح لنا»؛ لكن كرامتهم سمحت لهم أن يفعلوا ما يريدون فوالدي زائر دائم لمراكز الشرطة نظير أفعالهم وتصرفاتهم غير المدروسة.
اخواني منعوني!
وتقول «أم يزيد» إن كرامة أخوتي تتعبهم نفسياً وجسدياً؛ فهم يصرون على بقاء والدتي متنقلة بين زوجاتهم اللاتي لا يرغبن في وجودها، بينما تجد والدتي راحتها في منزلي من حيث الجو الاجتماعي المريح من محيط الجارات وأبنائي الذين يحيطونها بجو من الألفة والمحبة، وزوجي يعتبرها مثل والدته، ولا تشكل له أي مضايقة، ولكن إخوتي رغم نقاشاتي المستمرة معهم أن راحة والدتي أهم من كلام الناس وكرامتهم التي لا تخدم برهم بوالدتهم.، مضيفة: «أن كل ما يهمهم أن يعلم الناس بوجودها لديهم، أما سماعها لتذمرات زوجاتهم من خدمتها؛ فالكل يشعر بأنها حمل ثقيل يتناوبون على حمله كل أسبوع عند إحدى زوجاتهم، فأي كرامة تلك التي تحرم والدتي استقرارها وراحتها».
رجل ينتصر لكرامته بالصراخ على زوجته
تأهيل الكرامة
وتستغرب «حنان» من موقف الكثيرين من وظيفتها كممرضة، وأن كرامتهم لا تسمح لهم بالارتباط بها، خاصة أن عملها في وسط به اختلاط، وقالت: «كنت اتوقع أنني فخر لهم بخدمتي لهذا الوطن؛ فأنا ولله الحمد متقيدة بحجابي الساتر وأساند والدي مادياً وهو راض عني وهذا هو الأهم».
وتضيف «أم نواف» كرامة زوجي حولت حياتنا إلى شجار يومي؛ فأنا موظفة وهو لا يرى ضرورة لوظيفتي، ولا يسمح لي بمشاركته مادياً في المنزل، وأرغب في تحسين أوضاعنا المعيشية، ولكنه يصر دائماً بأن كرامته لا تسمح بأن تصرف عليه امرأة.
زواج ابن عمي!
وترى «ماجدة» أن الكرامة هي صفة الشموخ والعزة وتحفظ للإنسان حقوقه، ولكنها أخذت منحى آخر يتعلق بالعادات والتقاليد؛ فما ترفضه العادات والتقاليد ترفضه كرامته، وما تؤيده تقبله كرامته كل ذلك وفق عادات عقيمة؛ فابنة العم لا يجب أن يأخذها غير ابن عمها حتى وإن كان متزوجاً؛ فإذا جاءها من يرضون دينه وخلقه ولكنه من غير القبيلة أو العائلة فكرامتهم تأبى ذلك، فأين أبناء عمها لا يتزوجوها؟.
سهام: أين كرامته حين داست عليها زوجته أمام الجميع؟
الكرامة والحماقة
ويطرح «محمد أحمد السعيد» -موظف قطاع خاص- سؤالاً في البداية: ما هي الحدود الفاصلة بين الكرامة الشخصية وبين التسلط والعنف..؟، ويجيب على السؤال بقوله: «في اعتقادي أن الكثير لديهم حالة هروب جبان من التصرف الحضاري، وتحمل المسؤولية، وإقامة علاقة حميمة مع الآخرين؛ فيجعلون مسألة الكرامة شماعة للتسويغ وتبرير أخطائهم، وتغطية حماقاتهم التي يمارسونها مع الناس، فيرتكب الواحد منهم تعالياً، أو يمارس إذلالاً مع أصدقائه؛ بحجة حفظ كرامته، وهذا نقص معرفي، وشعور بتفوق الآخرين في مكان «ما»؛ ولهذا فإن الكرامة الشخصية شيء شفاف جداً في تحديد ماهيته، وعناصر أطره، مشيرا ًإلى أن الكثير لا يعرف الفرق بين حدود الكرامة والحماقة، ويختلط الأمر عليهم فتتحول حياتهم إلى تصجر وجفاف في العلاقات.
قائمة الممنوعات
وتقول «أم مهند» لقد أرهقني زوجي بممنوعاته التي تنقص من كرامته كرجل؛ فكل شيء ممنوع حتى استمد منه أبنائي الصغار هذه الصفة، وأصبحوا كذلك مع أخواتهم اللاتي يكبرنهم؛ فعند ذهابهم معنا للتسوق لا نعود للبيت إلاّ بمشكلة تنتهي بتدخل رجال الأمن في ذلك السوق، فأي نظرة من أحدهم لأخواتهم في السوق -وإن كانت عابرة- لابد من أن يعاقب صاحبها بالضرب والركل دون أي نقاش، فكرامتهم لا تسمح لهم بذلك، حتى النقاش مع البائع ممنوع والذهاب لمطاعم السوق ممنوع، لذا فضل بناتي توصية صديقاتهن في الجامعة لإحضار مستلزماتهن فهذا أرحم حالاً من الذهاب مع إخوتهم.
ماجدة: تهتز كرامتهم عند زواجي من غير ابن عمي!
سلاح ضد الزوجة
يقول «خالد العلي» -موظف حكومي- إن الكرامة شيء نسبي، ولا يجب أن تتواجد «الكرامة» في كل أمورنا، وعلاقاتنا، وأن نوظفها من أجل خلق الخصومات، والتحديات، وتصفية الحسابات، وتكون حاضرة بشكل مكثف عند رغبتنا في تمرير بعض الأشياء أو الممارسات؛ فنأخذها سلاحاً نشهره في وجه الزوجة عندما يكون الأمر خاصاً بمتعتنا، كأن يكون الشخص مدمناً على السهر مع أصدقائه بعيداً عن المنزل والأولاد، وإذا طلبت منه زوجته وقتاً صرخ «كرامتي ما تسمح أن تتحكم في أموري امرأة»، وهنا تكون الكرامة حالة تواطؤ تافهة ومفضوحة مع الهروب من المسؤولية، مؤكداً على أن الكرامة هي أن تحفظ قيمتك، وتمنح هذه القيمة للآخرين.
غياب المفاهيم
وترى «غادة الشامان» -أخصائية اجتماعية- أن الكرامة هي أغلى ما يملكه الفرد سواء رجلاً أو امراة، ولكنها تظهر كثيراً عند الرجل نظير مغذيات عديدة استمدها منذ الصغر؛ فهي بمثابة «خط أحمر» يمنع من تجاوزه؛ تمثّل قوة معنوية له، وترفض التنازل أو الاستسلام، وقد أخذت منحى آخر يتعذر به الرجل دون تقييم مناسب للموقف؛ نظراً لغياب مفهوم الاعتذار والاعتراف بالخطأ الذي يعتبره البعض ضعفاً ومنقصة لكرامته، فالزوج قد لا يعترف لزوجته بخطئه ظناً منه انه ضعيف، والحقيقة أن الاعتذار الصادق كفيل بتعزيز الثقة بالنفس، وإيضاح الخطأ ومعالجته بشكل غاية في الرقي والسمو الأخلاقي.وقالت: «إن ثقافة الاعتذار غائبة عن مجتمعنا، فالسطوة الذكورية تأبى الخضوع والانكسار بحسب مفهومها؛ لذا نحتاج لإعادة النظر في بعض المفاهيم والعادات التربوية منذ الصغر».وأضاف: «أن على المرأة أن تتفهم طبيعة زوجها؛ فهناك أسس تربوية لابد أن تعيها المرأة حتى تساهم سلوكاً في تقوية الرجل؛ لذا لابد أن تعرف متى تتسبب بسلوكها في إضعافه والعكس، فالمساس بالكرامة يختلف طابعها من شخص لآخر، فما يراه احدهم انه مهين ومس بكرامته لا يراه الشخص الآخر كذلك؛ فهي تختلف على حسب ومفهوم الشخص للإهانة، وحسب تقبلها؛ فقد يهين شخص شخصاً آخر عزيزاً لكن للعلاقة التي تربطهم قد تمر هذه الاهانة، وقد تكون اهانة كبيرة قد لا يحس بها ناطقها لأسباب انفعالية».وأشارت إلى مقولة إحدى الكاتبات «أن معظم المواقف الحادة تؤخذ ضد الآخر؛ لأننا نعتقد أن خطأه أهان كرامتنا ونحن في حال دفاع عنها، بينما الحقيقة أن كرامتنا بأيدينا وليست بأيدي الآخرين، وعزتها أو العكس مرتبطة بتصرفاتنا نحن وليس بتصرفات من حولنا مهما كان قربهم أو بعدهم عنا، وقد شكلت لنا قضية الكرامة عقدة نفسية بالغة التعقيد ولو شخصنا الحالة بدقة أكثر ووضعنا كل شيء في مكانه السليم لعلمنا أن كرامتنا مصانة طالما كانت أخلاقنا زاهية».